في الوقت الذي كانت فيه شمس الدولة العثمانية مائلة نحو الغروب، وهي تمر في أسوأ مراحل ضعفها وأحلكها، حتى أُطلق عليها تسمية: " الرجل المريض "..!
وُلِد في عاصمة الخلافة استانبول في عام 1881 م غلام اسمه: " أنور " لأب يُدعى " أحمد أفندي " موظف في إدارة الطرق العثمانية.
وترعرع هذا الغلام في إستانبول و كبر ثم التحق بالأكاديمية الحربية، و قد أبدى نجابة و نبوغا، ودهاءً عسكريا، وانضباطًا أخلاقيًا أعجب الكثيرين، فترقّى في السلك العسكري حتى نال رتبة رفيعة وهي رتبة:
" باشا "، رغم حداثة سنه، ثم أبلى بلاءً حسنًا في عديد من المعارك في البلقان و غيرها من المعارك التي خاضها دفاعًا عن الدولة العثمانية، مؤكدًا بذلك مهارته.. و شدة مراسه في خوض الحروب.
أنور باشا في جمعية " الإتحاد و الترقي ":
كانت الدولة العثمانية حينذاك - وكما أسلفنا - تمر بمرحلة ضعف شديد، و تخبط في الإدارة السياسية والإقتصادية والعسكرية، الأمر الذي حدا بالعديد من المثقفين وقياديي الجيش للإنضمام إلى جمعية: " الاتحاد والترقي " مخدوعين بشعاراتها البراقة والجذابة، مثل:
إطلاق الحريات، و قيام الحياة النيابية، وإعلان الدستور، بيد أنها في واقع الأمر كانت تخفي وراء هذه الشعارات السم الزعاف، و الحقد على الإسلام، و محاولة إقتلاع جذوره من الأمة التركية! إذ كان أكثر المنتمين إلى هذه الجمعية ينتمون أصلًا إلى الجمعيات الماسونية اليهودية، و يعملون على تحقيق أهداف يهودية بحتة كما سنرى..!
وقد انخرط " أنور باشا " كغيره من الضباط في صفوف هذه الجمعية، ظنًا منه - وهو الشاب المتحمس - أنها ستساهم في حل المشكلات التي تواجهها الدولة العثمانية، فتحمس لها، ولنشاطاتها، فغدا أحد أبرز ناشطيها على الإطلاق، حيث كان عضوًا بارزًا في هيئة الإدارة المركزية في " سلانيك "، وضابط اتصال بين الهيئة، وباقي الفروع في المناطق الأخرى.
و عندما رفض السلطان " عبدالحميد الثاني " عام 1901 م، عرض اليهود في مساعدة الدولة العثمانية ماديا لإنقاذ إقتصادها المتردي مقابل إنشاء وطن صغير لليهود في فلسطين، قام الاتحاديون جراء ذلك برفع نبرة الاعتراضات على سياسات السلطان " عبدالحميد الثاني " تحت العديد من الدعاوى المختلفة، وهي وإن كانت في بعضها صحيحة.
إلا أن الغاية الحقيقية من هذه الدعاوى هو إزاحة هذه العقبة الكأداء - أي السلطان عبدالحميد - عن طريق اليهود، لتحقيق حلمهم التاريخي بإنشاء دولتهم في فلسطين. فحاولوا في يوليو عام 1908 م عمل إنقلاب ضد السلطان، فأحدثوا فوضى.. وهرجًا.. ومرجا.
عندما فتحوا السجون ليخرج منها المجرمون و القتلة و قطاع الطرق، ليعيثوا في الأرض فسادا، و لكن الجماهير المسلمة تعلقت بالسلطان، والتفت حوله كخليفة لهم، و أبدت له الولاء والطاعة، فلم ينجح الإنقلاب هذه المرة.
و لكن بعد عدة أشهر قام فئة من كبار الضباط بالقيام بالانقلاب الثاني ليعزلوا السلطان عبدالحميد في مارس عام 1909 م، و قد كان على رأس هؤلاء الضباط صاحبنا: " أنور باشا "! الأمر الذي مهد الطريق فيما بعد للطاغية " مصطفى كمال أتاتورك "، بدقّ آخر مسمار في نعش الخلافة الإسلامية، وإلغائها في عام 1924 م..!
الاتحاديون و مستنقع الحرب العالمية الأولى:
بعد ذلك، تسلم الإتحاديون زمام الحكم رغم أنهم قد نصّبوا خليفةً صوريًا لا يملك من الأمر شيئا، فرزحت الدولة العثمانية تحت مغامرات تلك الفئة من الضباط المتهورين ومن أبرزهم: " طلعت باشا " وهو الصدر الأعظم، و" جمال باشا " وهو قائد الجيش الرابع في الشام، وصاحبنا " أنور باشا " وزير الحربية الذي تقلّد هذا المنصب و هو لم يتجاوز الثلاثة و الثلاثين عاما!
وكان الثلاثة ممن يفتقدون الخبرة السياسية، خصوصا في مجابهة دول لها باع طويل في اللعب على حبال السياسة، وفنون إخضاع الدول والشعوب، مثل: بريطانيا وفرنسا، وتجلى ذلك حينما كانت نُـذُر الحرب العالمية الأولى تلوح في الأفق، فزجّ أولئك الضباط برعونتهم وسوء تخطيطهم بالدولة العثمانية، إلى أتون الحربز
وقوفًا إلى جانب حليفتهم " ألمانيا " التي كانت في أوج غبطتها لهذا التحالف ضد أعدائها التقليديين: فرنسا وبريطانيا وحلفائهما، التي لم يكن العثمانيون في أي حال من الأحوال على استعداد لخوض أية حروب معها، و ذلك لحجم الفارق الهائل بين الطرفين من حيث الجاهزية.. والإعداد.. والتسليح..!
و دارت رحى الحرب في عام 1914 م، و تعاقبت الخسائر.. وترادفت الهزائم، و أخذت رقعة الدولة العثمانية تنقص تدريجيًا من أطرافها، إلى أن انتهت الحرب في عام 1918 بهزيمة شنيعة للدولة العثمانية وألمانيا.
بل قد احتلّ الحلفاء عاصمة الخلافة " إستانبول "! فرفع الاتحاديون راية الإستسلام البيضاء للحلفاء، وأقاموا حكومة انتقالية تدير شئون الدولة، و قرر ثمانية من قياديي الدولة مغادرة الدولة خشية على أنفسهم من تداعيات الحرب.
سواء من قِـبَـل الإعداء، أو من أفراد الشعب العثماني المفجوع بكرامته، فركبوا سفينة ألمانية تقلّهم إلى جزيرة " القرم "، ووصلوها وقد أعدت ألمانيا لهم قطارًا يحملهم إلى برلين إلى حيث منفاهم، و لكن أحد أولئك الثمانية فرّ خلسة من القطار وهم في طريقهم إلى برلين..!
من هو..؟
إنه: أنور باشا..!
أنـور بـــاشــا إلـــــى روســـيـــــا:
سافر أنور باشا إلى "موسكو" عاصمة "البلاشفة" الشيوعيين في روسيا الذين قاموا للتوّ بالإنقلاب على الحكم القيصري عام 1917 م، وأقاموا على أنقاضه حكومة شيوعية تحكم الشعب بالحديد والنار، و كان هؤلاء البلاشفة قد منحوا الوعود لأنور باشا بتقديم الدعم العسكري للعثمانيين ضد بريطانيا عدوّهم المشترك.
وكان أنور باشا الذي يتوقّد حماسًا.. وإباءً للذل والهزيمة، يرى أن المعركة لم تنتهِ بعد، فمكث مع البلاشفة ردحًا من الزمن، يروح و يغدو عليهم أملًا بإنجاز وعودهم العرقوبية..! ولكنه لم يجد منهم غير الكلام.. ولأماني العِــراض.. والمماطلة..!
بـيـْد أن أنور باشا اتضح له فيما بعد عمق الهوة بين ما يرمي إليه، و ما يرمي إليه أولئك الملحدون؛ إذ هو يريد إعادة العزة للإسلام ممثلة بإرجاع الهيبة المفقودة للدولة العثمانية، وهؤلاء يرمون إلى تكريس هزيمة الإسلام في تركيا.
لا سيما بعد أن اتضح أنهم قد كانوا على اتفاق مع " كمال أتاتورك " بعدم تقديم أي دعم لأنور باشا! و تأكّد له ذلك حينما أماط البلاشفة الشيوعيون اللثام عن وجههم القبيح، فقاموا بعمليات وحشية لاجتثاث الإسلام من جذوره بمنجلهم الأحمر في بلاد التركستان الإسلامية؛ و قاموا فيها بارتكاب مجازر ضد المسلمين، وانتهكت فيها الأعراض، وأهدرت الحرمات، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم:
و كشّرت الأنياب، وامتـد مخـلب وعـوّت ذئـاب البيد و الفلوات
و دوّت جيوش الغاب تسحق دونها ديارًا و ترمي شاهق الذروات
تـمـزّ ق أوصـال الـبـلاد غـنــائــمًا تـناهــبها فـي جهـرة وبـيـات
فما كان من أنور باشا إلا أن هبّ كالليث لنجدة إخوانه هناك، فالتحق بكتائب المجاهدين، موظّفًا كل خبراته العسكرية في القيادة و الحرب في تنظيم كتائب المجاهدين، و قام بتحريض الأهالي للجهاد.. ومعليًا لرايته ضد الملحدين الروس، فنظم قوة عسكرية عصرية التشكيل، و اهتم بترقية أحوال المسلمين هناك من كل النواحي العلمية، والصحية، والأدبية، والمادية.
وأنشأ مصنعًا للذخيرة ليكون مددًا للقوات المجاهدة، فانضم إليه الأهالي من كل حدب و صوب، و التفّـوا حوله حبًا فيه لـِما لمسوا فيه من صدق.. و عاطفة إسلامية متوهّجة.
و شرعت كتائب المجاهدين في العمليات الجهادية ضد الروس، فحققت انتصارات أبهرت العالم بأسره، على الرغم من اتساع الفارق بين الجيشين سواء من ناحية التسليح، أو العدد، فاسترجعت كتائب المجاهدين خمس ولايات من أصل تسع ولايات اجتاحها البلاشفة، واستمر الجهاد وكتائب المجاهدين بفضل من الله تعالى تنتصر.. وتغنم، وجيوش الملحدين تندحر.. و تًغرم.
و لبث " أنور باشا " في جهاده ضد الروس أحد عشر شهرًا ضرب فيه أروع الأمثلة من الصمود والشجاعة، الأمر الذي أرّق قادة البلاشفة.. وأقض مضاجعهم، فجرّدوا له حملة جديدة قوامها ثمانون ألفًا يقودهم جنرال روسي اسمه " قامانييف "، والتحم الجيشان عند بلد اسمه " بالجوان "ز
و لكن كتائب المجاهدين اضطرت بسبب نقص الذخيرة إلى التراجع، وهنا ظهرت مشكلة أخرى وهي قلة الضباط في كتائب المجاهدين حيث فقد أنور السيطرة على جناحي الجيش، فاستطاع العدو اختراق ميمنة المجاهدين.
فجاء أنور ليقود الميمنة بنفسه، إلا أن الروس كانوا قد أعدوا له كمينًا نصبوا فيه الرشاشات، فوقع أنور في الكمين و سقط مضرجًا بدمائه في ساحة الوغى وهو لم يتجاوز الأربعين عاما، وعلى إثر استشهاده هًزمت كتائب المجاهدين في تلك المعركة، وذلك في أول يوم من أيام العيد الأضحى لعام 1338 هـ، الموافق عام 1922 م
فاجتمع ثلاثون ألفًا من الأهالي و عملوا له جنازة هائلة لم تشهد لها تلك البلاد مثيلًا، و واروه التراب، يقول الأمير "شكيب أرسلان" رحمه الله: "وأحبه أهالي تلك البلاد حبًا جما، لما رأوه من تواضعه، ودماثة أخلاقه، وتوطئته كنفه لخاصتهم وعامتهم، وقد أحدثت ثورته هذه انتباهًا لا يوصف في تلك البلاد".
ويضيف الأمير بأن الشرقيين في الهند وغيرها لم يكونوا - لفرط حبهم لأنور باشا - يصدقون بخبر وفاته، إذ يقول: "ومع هذا فغرام الشرقيين بأنور كان يحدو جرائدهم على ترجيح خبر بقائه حيًا، وما زالوا يلهجون بذلك حتى أعلن الأمير " الالاي علي رضا بك " نائب أنور بيانًا في الجرائد الهندية يقول فيه:
" مضى زمن على شهادة الغازي أنور باشا الذي كان يجاهد لتحرير تركستان فهو اليوم ليس في أفغانستان ولا في إيران، ولا على حدود الهند، بل قد انتقل إلى جوار ربه الذي جاهد لنيل مرضاته بماله و نفسه... فرجاؤنا من مسلمي الهند أن لا يجددوا أحزاننا بنشر الأخبار الكاذبة عنه، بل أن يسألوا الله تعالى له المغفرة و الجنة "انتهى ".
بعد هذا التطواف في سيرة "أنور باشا" رحمه الله رحمة واسعة، نرى بأنه قد ارتكب جرمًا عظيمًا في حق أمته وهو عزل السلطان عبدالحميد الثاني عن الخلافة، وكذلك إقحام الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وهي لم تكن مستعدة لذلك، ولكن عندما نتأمل ما جرى بعد ذلك من أحداث، وإشعاله جذوة الجهاد ضد الملحدين الروس، وبطولاته المشرّفة، واستشهاده نرى أنه قد كفر عن خطاياه تكفيرًا عمليًا.
إذ قد حاول بكل السبل أن يعيد المجد الإسلامي للدولة العثمانية، ولما عجز عن ذلك قاد كتائب المجاهدين في تركستان ضد الملحدين البلاشفة، واستمر على ذلك إلى أن مات ميتتة كريمة.. بل هي أكرم ميتة يموتها الإنسان، على صهوة جواده.. و في أشرف موضع.. وهو موضع الجهاد ضد أعداء الله تعالى.
لقد كان لهذا البطل مندوحة أن يعيش في زوايا الأرض كرفيقه " طلعت باشا " الذي بدأ حياته الجديدة في الظلام، تحت إسم مستعار في ألمانيا، أو أن يحيا معززًا مكرمًا محظيًا عند الملوك، كما عاش رفيقه الآخر "جمال باشا" عند ملك الأفغان، ولكن أنور كان يختلف عنهما كل الإختلاف..
فأبى إلا أن ينصر إخوانه المسلمين.. ويقود المجاهدين ضد الملاحدة البلاشفة.. وهو يعلم تماما قوة أعدائه.. وخطورة هذا المَهـيَع، وآثر أن يموت على صهوة جواده.. منتضيًا سلاحه.. مقبلًا.. غير مدبر، لأن الأشجار الشامخة.. الباسقة.. لا تموت إلا و هي واقفة..! وقد مات هذا البطل واقفًا.. وأي وقوف..!
نسأل الله تعالى أن يعفو عنه، وأن يتجاوز عن أخطائه، و أن يتقبّله في عداد الشهداء يوم القيامة.. اللهم آمين.
الكاتب: ياسر عبدالتواب
المصدر: موقع إسلام ويب